أخبار عاجلة
أسعار الذهب في مصر اليوم الثلاثاء 29 أبريل 2025 -

العربي مفضال يسطر "زهرة العمر"

العربي مفضال يسطر "زهرة العمر"
العربي مفضال يسطر "زهرة العمر"

عن منشورات “الملتقى الجديد” بمراكش، صدرت في الآونة الأخيرة “زهرة العمر” لصاحبها العربي مفضال في مؤلَّف جمع بين دَفّتيه تجربة غنية، تندرج ضمن جنس السّيرة الذاتية، تطرّق فيها إلى موضوعات متعدّدة ونوْعِية، تَجْدِلها خيوطٌ ناظمةٌ، تُعنى بالمسارات التي قطعها اليسارُ المغربيّ الجديد الذي يتحدّث عنه الكاتب بكلّ هواجسه التنظيمية وبرامجه وأدبياته، منذ لحظة التّأسيس، مرورًا بالعمل السياسيّ السريّ في إطار منظمتي إلى الأمام و23 مارس، وصولا إلى مرحلة الشرعية، والعمل تحت مظلة منظّمة العمل الديمقراطي الشعبي بزعامة الزعيم والمقاوم بنسعيد آيت يدّر، ثم انفراط عقد المنظّمة وبداية إعلان أُفول نجم اليسار الجديد وتصدّع صفوفه بسبب التشرذم والانقسامات التي كانت وراءها -بالطبع-عواملُ موضوعيةٌ، تجد تفسيرَها في انكماش المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتّحاد السوفياتي، الذي كان من نتائجه المباشرة سقوط جدار برلين وتفكّك الاتّحاد السّوفياتي إلى قوميات ودُويلات مستقلة، فضلا عن تراجع المدّ القومي في الوطن العربي، بالإضافة إلى العوامل الذاتية التي يُمكن إجمالها في الممارسات المنحرفة ذات المنزَعِ الانتهازيّ، سلكَ طريقَها البعضُ لبلوغ أهداف شخصية لا مراء فيها، بعيدا عن الأفقين الفكري والأيديولوجي التقدميين، اللّذين رَسمتْ معالمَهما وفلسفَتهما طليعةُ المناضلين الذين آمنوا بالخطّ الوطني الديمقراطي. في المقابل، بقيت قلّة قليلة من اليساريين الجذريّين متمسّكةً بالاختيار الاشتراكي الديمقراطي كأسلوبٍ ومنهاجٍ في الحياة السياسية في المغرب.

العمل الموسوم بـ”زهرة العمر”، شَغل حوالي 240 صفحة من الحجم المتوسط، جاء مبوّبا ومفصّلا إلى تقديم وتعقيب في صيغة تذييل من توقيع الأكاديمي والباحث عبد الصمد بلكبير، فيما جاءت السيرة الذاتية للمؤلِّف العربي مفضال موزَّعة على عنوانين رئيسين: استهلال وزهرة العمر، وهو النص الشذري السيري الذي يَعرض فيه العربي مفضال مادة دسمة حضرت تحت عناوين فرعية ومسمّيات كثيرة، تماشيا مع متوالية الأحداث، لكنّها غنيةٌ غنى الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت تَعجُّ بها السّاحة الوطنية المغربية آنذاك، ونعني تَراكُب الوقائع التي طبعت عقودا من الزمن، تعود إلى القرن الماضي بالمعنى المادي للزمن (ابتداء من الستينيات إلى غاية التسعينيات). إنّما خيطُ الأحداث هذا حتى لو بدا مسترسلا إلا أنه يَخضع بموجب تكنيك الكتابة لعملية التداخل أحيانا، والانصهار أحيانا أخرى بين ما هو ذاتي وموضوعي في الآن الواحد. لعلَّ صَوْغَ مداخل هذه السّيرة الذاتية حَمل الكاتب على رَفْد سرديته بالتّنويع في أساليب التعبير المبتَكرة، بحيث اتّسمت بالإيجاز والقصدية والجودة في السّبك. الأمر الذي جعلها تستجيب لأفق انتظار القارئ المتعدّد تعدّد الخلفيات الثقافية والاجتماعية والسياسية.

مع العربي مفضال نجد أنفسنا قادرين-إلى حد ما-على ممارسة نوع من السخرية الجميلة كلما طَالَعنا مقطعٌ من مقاطع سيرته الذّاتية الشّذرية في ثوبها الاستعاريّ، حسبُنا في ذلك أنّنا نحن ذاك التوأم الروحي للعربي مفضال الكاتب، نُقاسمه ويُقاسمنا ناصية أحلام مّرت في غفلة منّا، كما أنه يُبادر إلى نثْر رسائله الواضحة والمشفّرة في وجوهنا. وعليه، فإن الكاتب يُباشر التّقطيعَ الأفقيّ للمغرب السّياسيّ خلال مرحلة تمتدّ لعقودٍ من الزّمن. إننا إزاء متوالية من الأحداث تناغمت في صُلبها التفاصيلُ التي نستطيع القبض عليها طريةً لنُعيد صوْغها ثانية، وفق رؤيتنا وتصوّرنا للعالم الذي يُحيط بنا، وذلك حسب السياقات التّاريخية المؤطِّرة لمجرى وصيرورة الأحداث، التي وقعت وتقع بين ظهرانينا بصفتنا أبناءً لهذا الوطن، نُجاري الزمن للّحاق بركب الحداثة والتقدم والديمقراطية، لكن، سرعان ما وجدنا أنفسنا وجهًا لوجه مع واقع سياسيّ عنيدٍ وكابحٍ للتّطلعات المشروعة للأمّة المغربية. هذه المقولات الجوهرية المتجاورة في حقولها الدّلالية، شكّلت التّعبيرات عن الحلم الذي يُراود الجميع، نُخبًا سياسيةً ونقابيةً وجماهيرَ شعبية تتطلّع إلى التغيير السياسيّ المنشود، والعبور إلى مرحلةٍ جديدة، تُحفظ فيها حقوقُ الإنسان، وتُصان كرامتُه المهدورة.

يقول عبد الصمد بلكبير: “نحن إذن أمام نصّ مزدَوَج .. أمام نصين (سيرة ومسيرة)، السيرة تهمُّ شخص كاتبها وتهمُّ معارفَه ومحيطَه، وهم كُثرٌ، ولكنّها أيضا وبالأحرى تهمّ عموم التراكم في ديوان الأدب المغربيّ، وخصوصًا جنس السيرة الذّاتية في رصيده ورصيد الأدب العربيّ عامةً؛ ذلك أنه نصٌّ أدبيّ غاية في احترام شروطه، التي يمكن اختصار بلاغتها في عبارة الجاحظ الخالدة (السّهل المُمتنع). فهو مُمْتنعٌ لا شكّ في تجربة الحياة الخاصّة والمتميّزة، التي تُذكِّرنا بالنماذج الرّائدة على هذا الصعيد، صعيد المحن وقسوة الحياة، التي قد تَسمح، بل وقد تدفع لتحدّي صعوباتها وعراقيلها. ولكن أيضا (فسحة الأمل) في انتظار مصادفاتها القدَرية السّعيدة، ومفاجآتها الانفراجية …”.

يَمضي الكاتب في سيرته الذاتية الشّذرية ساردًا متمكّنا، خبيرًا في ما يَعرض له من أسرار وخبايا، تَتمَفْصل حول الحدث في حدّ ذاته، بعيدًا عن الإسْفاف في القول، إنّه يُراقب تَعابِيرَه عن كثبٍ، مُراعيًا في ذلك مُقتضى الحال كما ذهب إلى ذلك عبد الصمد بلكبير في معرض كلمته التي قدّم بها نصَّ العمل السّيري. يقول العربي مفضال: “وُلدتُ في منطقة ‘الجبيل’ القريبةِ من قلعة السراغنة وتاملّالت. تنتشر في هذه المنطقة دواويرُ عديدةٌ يَعتبر سكّانُها أنفسَهم، ويَعتبرُهم جيرانُهم، من السراغنة أو الرحامنة وغيرهم، ‘شرفاء’ ينتسبون إلى سيّدي رحَّال البودالي.

وعلى الرّغم من أنّ هؤلاء الجيران كانوا يُعلنون احترامهم لأبناء نزيل زاوية زَمْران… ولا يُنادونهم بأسمائهم، ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا… إلّا مسبوقةً بـ’سّي’ أو بـ’لالّة’… فإن الاحترامَ المذكور لم يكن مقرونًا بأيّ امتيازٍ اجتماعيّ أو اقتصاديّ؛ وكثيرًا ما اشتغل ‘الشرفاءُ’ رعاةً أو خمَّاسين أو ربَّاعين لدى العوام”. {زهرة العمر (ص):19}.

الانتماء الجغرافي لدى الكاتب أو بالأحرى التّأشير على الامتداد القبلي باعتباره نواة في الوجود الرّمزي، يؤسس لترتيبات موضوع الحكاية التي يودّ مفضال الكاتب القيام بها لوصل حلقاتها، في تناغم بين الذاتي والموضوعي، ضمانًا لنسج سردية تستجيبُ لتحدّيات القراءة و”براديغماتها” ذات الصلة بالسّياق الثقافي الرّاهن، فـ”زهرة العمر” كما ورد في كلمة على ظهر الغلاف لنور الدين العوفي: “… سيرة ذاتية متعدّدة المستويات، يجتمعُ فيها الذّاتي والموضوعيّ، الذاتيّ والجماعيّ، الاجتماعيّ والسياسيّ، الثقافيّ والفكريّ (…) تجربة ذاتية تتقاطع مع “التجربة الجماعية” التي عاش حلقاتها نخبةٌ من الشباب وسَمت تاريخ المغرب المعاصر، وساهمت في إِغناءِ الدينامية السياسية والاجتماعية التي عرفتها بلادنا. الكتاب يؤرِّخ، بكثير من التوازن، لسنوات الصراع السياسي التي اجترحت فيها السلطة أشكالاً قصوى من (العنف الشرعي)”.

بعيدا عن أحكام القيمة في حقّ النص السِّيري الذي نُباشر قراءته، نقول بأن السّيرة الذاتية للعربي مفضال سيرة جماعية بكل تأكيد، رغم كل ما تعرضُ له من تفصيلات تبدو ذاتية، لكنها تتقاطع مع الآخر، فنصّها الشَّذري يُضيء الدروب العاتمة أمام المتلقّي كي يُقْدم على إعادة بناء الأحداث، سعيًا وراء استجلاء ما استُغلق من معانيها ودلالاتها.

السارد في “زهرة العمر” يمضي قُدمًا في رصْف الوقائع، الواحدة تلو الأخرى دون أن يُشعرنا بالفصل بين النصوص التي اختار لها عناوين، تتصادَى مع محتوى الحكاية الأم (السيرة الذاتية في شموليتها) عبر التجزيئ والتفصيل، كأني به (السارد) يمارس تمرين التسلل إلى الزوايا الخلفية، التي تتوارى خلفها الأحداث والشخصيات، وفق أنماط من الوعي السياسي والفكري والاجتماعي، التي تؤطرها التعابير اللغوية والأساليب التعبيرية.

يقول مفضال في “زهرة العمر” (ص) 54: “… وإذا كانت الخدمة العسكرية القصيرة قد تركت آثارها في وفي غيري… فإن معظم ما اكتسبته أنا وإخوتي، من صفات… رضعناه من والدتنا عائشة العربي سواء تعلق الأمر بالقدرة الهائلة على العمل، والوفاء بالوعود، والالتزام المبالغ فيه بالمواعيد… أو تعلق الأمر بالحذق والاقتصاد، وبالكرم والجود، وبرفض المهانة، وترك الجمل بما حمل كلما شعرت بشيء منها… لم أنس يوما تهديدها لي بالإحالة على رجال الدرك، عندما تورطت في حماقة التحرش بإحدى الفتيات ذات صيف بالجبيل. ولم يكن عمري يومئذ قد تجاوز الثالثة عشرة. لقد سبقت “الكومندار عائشة العربي” بقية الضباط وضباط الصف والجنود، فعسكرتنا منذ نعومة أظافرنا”.

تسعى “زهرة العمر” إلى بناء أحداثها ذات الطابع الاجتماعي على قاعدة تجنيس اللغة والصيغ التعبيرية. لعل الاجتماعي سرعان مع يتراجع إلى الخلف ليخلي السبيل أمام عناصر بنائية أخرى، ترتد إلى التاريخ والأيديولوجيا والثقافة، مما يفسر أن نص السيرة الذاتية للعربي مفضال يكتسب واقعيته من مرجعياته القصصية، المتمثلة في المعنى.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق جدول امتحانات شهر أبريل الصف الخامس الابتدائي 2025
التالى الرئيس السيسى وأمير قطر يؤكدان ضرورة دعم الخطة العربية لإعادة إعمار غزة